السجن
المقالة

أنا أحسن واحد في هالمجزرة. أنا عايش

ثمة فاصل دعائي، كان يتكرر باستمرار في القناة الألمانية العربية (دوتش فيلي)، يعرض لاجئا سوريا نجا من إحدى المجازر، فقد ذراعه وإحدى عينيه، وهو يقول بحبور: “أنا أحسن واحد في هالمجزرة .. أنا عايش”.

السجن
السجن

تذكرت هذا الفاصل الدعائي المروع ، وأنا أطالع مذكرات السجين السابق، عبدالونيس محمود، الذي قضى 18 عاما في السجن السياسي، منها 11 عاما في الحبس الانفرادي، حيث يتساءل بمرارة: “إذن كيف بقيت على قيد الحياة ونجوت من مكب الموت الشهير (بالحصان الأسود) ؟. أنا نفسي استغرب كيف بقيت حيا، لقد سألني الكثيرون هذا السؤال بعد خروجي من السجن .. لماذا بقيت حيا بينما أُعدم الكثيرون من زملائك أو انتحروا أو ماتوا بسبب الأمراض والأوضاع السيئة والإهمال المتعمد؟؟.”
أسئلة وصرخات تنبع من تراجيديا الظلم والظلام التي ألفها وأدارها طغاة، مستعينين بمن ربوهم كوحوش لتنفيذ مجازرهم الجماعية التي تتم دفعة واحدة أو بالتقسيط، حيث يقنعك هؤلاء الطغاة بأن العيش في حد ذاته انتصار حتى ولو فقدت نصف أعضائك الجسدية، أو فقدت أجمل سنوات عمرك في زنزانة معتمة.

لا يجد عبدالونيس محمود إجابة لهذا السؤال: كيف نجوت من هذه المجزرة؟ ولن نجد له إجابة ـ نحن من تمتعنا بالهواء الطلق نتابع الصرخات في القنوات أو نقرأ مذكرات الألم ـ سوى تحسس أجسادنا، وتلك النظرة القلقة الموجهة إلى أبنائنا ونحن نراهم يكبرون في قلب الكوابيس.

يعجز الكاتب عن الإجابة، لكن بقرائته لطريقة تفكير الطاغية يقترح تأويلا ممكنا لهذه المصادفات التي تشبه لعبة الروليت بالمسدس التي كان يقوم بها الجنود اليائسون في الخنادق، حيث توضع طلقة في المسدس، وتدار البكرة عشوائيا، وكل مرة يصوب المسدس إلى رأس أحد اللاعبين، وتصبح نجاته من الموت مجرد صدفة في لعبة قاسية.

يخمن عبدالونيس إجابته لهذا السؤال وهو يتذكر تلك الفترة التي كانت تتم فيها عمليات الإعدام بالجملة وبسرية: “كانت تلك أياما عصيبة حقا هي الأخرى وقد أطلقنا على أنفسنا خلالها اسم (الاحتياطي الاستراتيجي) بمعنى أن القذافي عندما يصاب بالسعار وتنتابه حمى القتل ولا يجد أمامه من يقتله يعود إلى رصيده المتبقي من المحكوم عليهم بالإعدام”.

ويذكر بعض الأسماء من ذلك الاحتياطي الاستراتيجي (المجنب) من أجل أن تقدم منه كل مرة القرابين التي تهدئ من غضب الآلهة وفق شعائر عبادها من اللجان الثورية ــ التي أعدمت في الفترة بين عامي 1984 و 1987 ، تلك الفترة القاسية التي تعرض فيها القذافي لأخطار خارجية وداخلية: “المقدم آدم الحواز وزير الدفاع السابق ، والنقيب عمر الواحدي ، والأستاذ الجامعي عمر النامي، ومحمد هلال، وعبد الله المسلاتي، وحسين الكردي، وقتح الله العريبي ، والسيد أحمد عون، وصادق الشلادي .. وكثيرون غيرهم” . ممن أصابتهم رصاصات لعبة الروليت التي تدور في أقبية باب العزيزية.

“انتشرت رائحة الموت في كل مكان من السجن وتحول سجن الحصان الأسود إلى مقبرة حقيقة من الداخل وإلى معتقل رهيب من الخارج يشبه إلى حد بعيد معتقل (العقيلة) الشهير الذي أقامه الجنرال غراسياني الفاشستي، لإبادة الشعب الليبي إبان استعمار إيطاليا لليبيا”.
لا فرق بين فاشية غازية أو فاشية وطنية لأن النتيجة واحدة، وفي كلتا الحالتين تبدأ المجزرة، والوقائع التي تنافس خيال الروائيين اللاتينين الذين استخدموا الواقعية السحرية لوصف الطغاة في بلدانهم، ومن هذه المفارقات الغريبة يذهب الكاتب إلى ذكر سبب عجيب لنقله من السجن الانفرادي إلى السجن الجماعي ، فالأمر لا يتعلق بأي بعد إنساني ولا بشفقة، ولا يمت لقوانين السجن بصلة، مثلما الإعدام كان ترتيبا للترفيه على الطاغية كلما مر بحالة توتر أو ضغوط نفسية، فقائمة المحكومين بالإعدام هي صيدليته النفسية المقترحة التي يسحب منها علاجه الدوري : “اكتظ سجن الحصان الأسود بالمساجين السياسيين وذلك بعد الحملة الشرسة التي أعلنها القذافي في شهر أبريل من العام 1980 ضد خصومه السياسيين من المعارضة داخل ليبيا وخارجها وهي الحملة التي أطلق عليها القذافي بنفسه اسم :(التصفية الجسدية لأعداء الثورة) حيث أُعدِم الكثيرون في الداخل أو ماتوا تحت التعذيب من أمثال الأستاذ فرج حمي والمحامي عامر الدغيس بطرابلس، واغتيل الكثيرون في الخارج كالمذيع والصحفي محمد مصطفى رمضان، والمحامي محمود نافع، في لندن، والدبلوماسي عمران المهدوي في بون، ورجل الأعمال عبدالجليل عارف في روما. ولم يعد مناسبا ــ بطبيعة الحال ــ لإدارة السجن أن يظل شخص واحد يحتل زنزانة كاملة بمفرده فهذا ترف لم يعد الوضع الجديد يسمح بتبريره.”.

في مثل هذه الكوابيس التي تمر بها المجتمعات المقهورة تصبح النجاة من المجزرة بنصف جسد، أو الحبس الانفرادي لسنين طوال، ترفا ، واتذكر بعض أصدقائي من سجناء الرأي السابقين الذين كانوا حين يتحول السجن الجماعي إلى الجحيم يتعمدون إثارة مشكلة في السجن كي ينالوا عقاب الحبس الانفرادي الذي بالنسبة لهم هبة عظيمة في قلب الجحيم، والعبث وحده من يحيل العقاب إلى مكافأة.

تستمر التراجيديا وهي تسابق الخيال لتكتشف أن النقل إلى سجن جماعي بعد 11 عاما من الحبس الانفرادي كابوس آخر، حيث يجد السجين نفسه في زنزانة مساحتها 4 × 5 أمتار يتواجد بها 15 سجينا من الاحتياطي الاستراتيجي من المحكومين بالإعدام: “بعضهم مدنيون من الأحزاب السياسية، من بينهم الأستاذ الحقوقي فريد أشرف حسين، والطالب الجامعي مبروك الزول، وبعضهم الآخر عسكريون متهمون بالتآمر من بينهم: الرائدان السابقان بالجيش، أحمد الزبير السنوسي، وعمر الحريري.”. وكان الكابوس الجديد يتمثل في هذا الحشد من المنتظرين إعدامهم في حيز صغير يحوي أَسرّة بثلاث طوابق، والمرحاض الوحيد يظل مشغولا لأربع وعشرين ساعة وبه الصنبور الوحيد المتاح لماء الشرب، والكوى الصغيرة لا تكفي للتهوئة ، ما خلق جوا من التوتر الذي لا يطاق كثيرا ما يتسبب في حالات شجار.

“من المضحك المبكي ما اتذكره الآن حين خصصنا مساحة صغيرة داخل الزنزانة من أجل أن نصلي فيها ونتناول الطعام، ولكن عندما يتشاجر الاثنان لا يجدان مكانا صالحا للعراك غير تلك المساحة الصغيرة، لذلك أطلقنا عليها اسم (مطعم ومسجد وحلبة ملاكمة).”
كل من يذكرهم الكاتب من ضحايا السجون هم من تكنوقراط وصفوة النخب الليبية في كل مجال، وكثير منهم أسس للدولة الليبية الأولى في التاريخ. وإذ أعيد قراءة هذه الوقائع فإني أوجه رسالة من خلالها إلى كل من مازالوا يدافعون عن ذلك النظام الشرس، أو يحنون إليه، أو يدعون لعودة الاستبداد من جديد، وأذكرهم بأن آلاف من الليبيين تعرضوا لمثل هذا العذاب ونجو بنفوس مبتورة، أو قتلوا، أو ماتوا جوعا ومرضا، ولو كتب كل منهم سيرته لظهرت ألاف الكتب التي تصف مدى الظلم والعذاب الذي تعرضوا له هم وعائلاتهم وأقاربهم في هذه الحقبة المعتمة. فاستحوا، وكفى أذىً لآلاف الضحايا عبر التغزل في من لم يكتف بتعذيب وإعدام الصفوة من مجتمعنا بل احتفظ بجثامينهم في البرادات لسنوات طويلة من أجل زيارتهم دوريا لمعالجة أمراضه النفسية، بعد أن صفى كل من له رأي مخالف، ونفد احتياطيه الاستراتيجي من المحكومين بالإعدام.

____________________________

*كل العبارات بين علامات التنصيص ” ” منقولة حرفيا عن أوراق عبد الونيس محمود “مذكرة حول الأحداث التي مررت بها في سجن (الحصان الأسود)”.

نشر بموقع بوابة الوسط.

مقالات ذات علاقة

سـقـراط

أنيس فوزي

المثقف و المبدع

رامز رمضان النويصري

تاغدا

عبدالحكيم الطويل

اترك تعليق