المقالة

أدونيس … الشعرية العربية

أحمد ناصر قرين

لا شك في أن استنباط الخليل للأوزان الشعرية و تقعيدها عمل إبداعي لا يكشف عن حسه الموسيقي الأصيل وحسب , وإنما يكشف كذلك عما يمتلكه من قدرة تحليلية باهرة . وفي (كتاب الموسيقى الكبير ) للفارابي , نجد ما يؤكد ذلك ,إذ يعرض الفارابي للعلاقة الجوهرية بين الشعر والوزن , بشكل نظري دقيق يفيدنا كثيرا ً في فهم العمل التأسيسي الذي قام به الخليل وتقدير دوره التاريخي …………

كان الخليل رجل علم في النحو والبلاغة والموسيقى . نظر الى اللغة بوصفها بناء ً ونظاما ً , واستقصى موسيقى الشعر الجاهلي فوضع أوزانه -بقواعدها وجوازاتها , في إطار غايته التوكيد على أن للعرب , هم أيضا ً , موسيقاهم الخاصة التي تحمل صفات عربية خالصة , في ما يتعلق بالإنشاد والغناء على الأخص .

وكان في هذا كله يصف ويـُنظـّر لما يصفه , ويمكن القول إن عمله هذا كان تأريخيا ً لحفظ اللغة , ولحفظ أوزان الشعر , شأن الأعمال الأخرى التي قام بها غيره لحفظ القرآن , والحديث النبوي , ومآثر العرب المختلفة .
غير أن اللاحقين قرأوا ما فعله الخليل قراءة قومية -ايدلوجية , فرفعوا عمل الخليل الوصفي الى مرتبة القاعدة المعيارية وذلك يتأثير الصراع السياسي – الثقافي -القومي بين العرب وغيرهم . وهكذا حصر القول الشعري في قواعد نمطية معينة , بدلا ً من أن يظل حرا ً , يتحرك مرتبطا ً بالفالية الإبداعية .

ونحن اليوم , إذ نقرأ ماضينا الشعري , فليس لكي نرى ما رآه الخليل واللاحقون , وحسب , وإنما لكي نرى ما غاب عنهم وما لم يروه. نحن اليوم , نقرأ الفراغ أو النقص الذي تركوه . خصوصا ً أن التقنين والتقعيد يتناقضان مع طبيعة اللغة الشعرية , فهذه اللغة بما هي الإنسان في تفجره واندفاعه واختلافه , تظل في توهج وتجدد, وتغاير , وتظل في حركية وتفجـّر , إنها دائما ً شكل من أشكال اختراق التقنين والتقعيد . إنها البحث عن الذات , والعودة اليها , لكن عبر هجرة ٍ دائمة ٍ خارج الذات .

وفي قراءتنا هذه لابد من أن نقرأ الصمت , وما كان صامتا ً .
لـِم َ كان الخطاب النقدي التقعيدي الذي ساد , خطابا ً واحدا ً, بنظرة ٍ واحدة ٍ – لكن بأصواتٍ متعددة ؟ لـِم َ هذه النظرة ؟ هل لأنها حجبت غيرها ؟ ولماذا , وكيف ؟ هل كانت وحدها النظرة الصحيحة , ولـِم عـُدّت كذلك , وكيف ؟ كيف تقرر أن الشعر الجاهلي لا يـُفهم ولا يـُقوّم إلا وفقا ً لهذه النظرة – خصوصا ً أن قراءته , اليوم , تكشف عن تنوعه الاختلافي مما يفترض تنوعا ً في الفهم والأحكام النقدية ؟ هل كان التنوع في النظر الى الشعر الجاهلي موجودا,لكنه طـُمِس أو مـُنِع ؟ولماذا , وكيف ؟ هل كانت هناك سلطة تستأثر بالخطاب التقعيدي الى درجة تجعل منه هو نفسه سلطة ً تلغي كل خطاب آخر ؟ وماهذه السلطة ؟ أهي دينية , أهي لغوية , أهي قومية ؟أهي تمسّك بالبداوة -رمز النقاء والأصول – ورفضا ً للمدينة , رمز الاختلاط والهـُجنة ؟ أهي مزيج من هذا كله ؟ ً هل استمرار هذا الخطاب , مستعادا ً مكررا ً , صيغة من صيغ إثبات الهوية ,وهو لذلك يميل الى إلغاء غيره بوصفه تشكيكا ً فيها , وبحيث تكون الهوية تكراراً للذات نفسها ؟؟

إن في هذه التساؤلات ما يشير الى أن ذلك الخطاب التقعيدي , الواحد , المتواصل , يـُخفي وراءه صمتا ً , وغياباً ونقصا ً. ونحن اليوم مدعوون الى ممارسة قراءةٍ لتراثنا النقدي الشعري , تكشف عن الغياب والنقص , وتستنطق الصمت ….

مقالات ذات علاقة

الطريق إلى الديمقراطية في ليبيا مازال طويلا وشائكا

جمعة بوكليب

رائدة في دنيا المُستحيل

فاطمة غندور

سمو الإنسان

علي بوخريص

اترك تعليق