أدب الأطفال
المقالة

هرطقات ليبي معزول (2): نشر كتب الأطفال

لي تجربة مع نشر الكتاب في ليبيا منذ 1999 وهي تجربة لا أقول انها سهلة وميسرة انما هي صعبة ونتائجها المادية لا يمكن حسابها لانعدامها، ذلك لان الناشر عندما تكون له رسالة هدفها الأساسي الثقافة وترقية الذائقة الإبداعية وتنمية الوعي العام بأهمية القراءة لدى كل فئات المجتمع فانه لا ينتظر عائدا ماديا لقاء عمله هذا.

أدب الأطفال
أدب الأطفال

هذه التجربة كانت حلم يراودني مذ كنت موظفا صغيرا بمكتبة سوق الجمعة العامة التي كان موقعها امام مدرسة سوق الجمعة الثانوية… وكبر الحلم عندما التحق للدراسة بقسم المكتبات والمعلومات بكلية التربية جامعة طرابلس… ليشغل تفكيري بعد التخرج سنة 1981 وصار شغلي الشاغل، الا ان الظروف وقتها كانت لا تسمح بالنشر الخاص وكانت عمليات النشر محتكرة على شركتين عامتين (هما الشركة العامة للنشر والتوزيع والاعلان والدار العربية للكتاب).. ثم صدر استثناء سنة 1995 بالسماح بإنشاء دور نشر خاصة فتقدمت للجهات المسؤولة آنذاك وتحصلت على ترخيص وباشرت العمل بكتاب أصدرته لدكتور عراقي كان يعمل استاذاً للفلسفة بجامعة الزاوية، حيث كنت استاذاً متعاوناً بالجامعة وقتها، ولاقى الكتاب قبولا مكنني من الاستمرار في النشر وحقق لي وجود مادي ومعنوي بسوق الكتاب الليبي.

ما دعاني لذكر السابق. هو ما آلت إليه حركة نشر الكتاب في بلادي هو اطلاعي على معلومات غاية في الأهمية لبعض الدول التي سلكت الطريق الصحيح لبناء وتطوير مجتمعاتها.. فبينما نحن لا نملك حتى مقراً متواضعاً لاتحاد الناشرين الليبيين ولا معارض للكتب متخصصة ومنتظمة ولا حركة نقدية للنشر من حيث الشكل والمضمون ولا مسابقات لأفضل كتاب وأجمل غلاف وأكثر توزيعا.. و و و.. فان في بريطانيا على سبيل المثال اتحاد خاص بناشري كتب الأطفال فقط منذ (1970)… واليكم التالي: “إن تعداد الأطفال في الاتحاد السوفييتي يبلغ قرابة 70 مليون طفل يتكلمون 57 لغة.. وينتج الاتحاد السوفييتي في المتوسط السنوي (2.5) كتاب جديد لكل طفل.. ويعلنون عدم رضاهم لهذه النسبة رغم انها تعادل قدر ما يصدر من كتب الأطفال في إنجلترا (9) مرات وقدر ما يصدر منها في الولايات المتحدة (4) مرات.. وكتبهم ترسم بحيث تعكس الرسوم الفكرة والمضمون للكتاب بطريقة واقعية.. وليست بطريقة تجديدية.. كما ان هذه الرسوم يجب ان تنمي في الطفل من حيث التلوين والتكوين بالإحساس الفني وتذوق الجمال”.

ما أود قوله هو ان بناء الانسان العربي لا يمكن ان يبدأ الا ببناء الطفل العربي… ولنعلم بان تعداد الأطفال في الوطن العربي يفوق 40% من عدد سكانه البالغ عددهم تقريبياً عن 250 مليون عربي… أي اننا نتحدث عن حوالي 100 مليون طفل او يزيد ممن تقل أعمارهم عن 15 سنة. يتابع اغلبهم اذاعات ويشاهدون قنوات تلفزيونية بها برامج لم يعد الكثير منها أصلاً لأبناء منطقتنا ويقرؤون كتبا وقصصا ومجلات عدد كبير منها مترجم دون عناية بالصغار ولا يشاهدون الا نادراً مسرحيات او أفلاما عربية هادفة خاصة موجهة لهم.. وقد يرددون الان أغاني من تراثهم الشعبي لا تتفق في كثير من مضامينها مع متطلبات العصر او مع حاجاتهم.. يحدث هذا في الوقت الذي تخوض فيه الامة العربية أكثر السنوات حسماً في تاريخها.. سواء من الناحية الدينية او السياسية او الاجتماعية او الاقتصادية.

فكيف لنا ان ننتظر من طفل يعيش كل يوم ابهار الميليشيات وحملة السلاح واخبار القتل والخطف والتحلي بملابس الجيش بل والأنكي من ذلك صار يلعب بأسلحة مصنوعة من البلاستيك تطلق عيارات بلاستيكية أدت في الكثير من الحالات الى إصابات في العيون… كيف يمكننا ان نرتجي من جيل تربى على مشاهد القتل والدم والصراعات القبلية والجهوية.. وعاش في بيئة اتكالية وانانية من اسرته ومن أقرب الاقرباء اليه.. وتعود اعتماد على الغير في كل حاجاته اليومية.. كيف يمكن ان نشعر هذا الجيل بالجمال في بيئة غير نقية صارت فيها الشوارع كمكبات للقمامة.. وصار لون المدينة قاتم كمستقبلها الذي تقوم بتشكيلة طغمة لا علاقة لها بالإنسانية من كل قيم الجمال والحب والخير.

ما دعاني لكتابة كل هذا هو اقبال دار النخلة لنشر عدد من قصص الأطفال التي كتبتها آنسة من الجنوب في شكل جميل ومتفق مع البيئة الليبية دينيا واجتماعيا.. إلا أن الغلاء الفاحش في تكاليف الطباعة أخر فكرة النشر إلى ما بعد استقرار أحوال البلاد.. وكان للدار أن نشرت عدد 8 كتب للتلوين أسمتها سلسلة (لون) أرادت بها أن تعلم الأطفال من سن 3 إلى 6 سنوات كيفية تعلم الأرقام والحروف لتهيئتهم لدخول معترك المدرسة.

فمتى نرى اتحادا لناشري كتب الأطفال.. ومتى نرى مسابقة لأفضل قصة للأطفال أو لأجمل غلاف.. ولأكثر القراء الصغار، وأسرعهم قراءة للنصوص وجائزة لأكثر القصص توزيعا وأبلغها فكرة وأكثرها توزيعاً.

أعرف أننا جميعا نحلم.. لكن في هذا الجو القاتم.. ألا يحق لنا أن نحلم.. أم أن حتى الحلم صار معزولا عنا.

مقالات ذات علاقة

ﺣﻮﺍﺭ ﺑﻼ ﻣﻨﻄﻖ .. ﺛﺮﺛﺮﺓ ﻭﻫﺪﺭ

منى بن هيبة

أصدقاء دار الفقيه حسن

مفتاح العماري

الذكاء الاصطناعي والحدود التي يذهب اليها

المشرف العام

اترك تعليق