من أعمال المصور أسامة محمد
قصة

الشمعة لا تنحني..وان انحنت انطفأت

من أعمال المصور أسامة محمد
من أعمال المصور أسامة محمد

 

 

فاجأني بعينين ضاحكتين، اعترض طريقي ووقفَ قبالتي صامتاً لبرهةٍ، وقد علتْ وجهه ابتسامة حقيقية، ماداً ذراعيه في لهفة ليحضنني ويضمني الى صدره أو ليصافحني بكلتيهما، لا استطيع ان احدد بالضبط ماذا ينوي، وقد سعد كثيراً بلقياي و غمرني بحفاوته البالغة، منتظراً مني التعرف عليه بنفس السرعة التي تعرّف بها عليّ والارتماء في أحضانه مباشرة ومبادلته البهجة الطارئة التي خلقها الموقف.

في حقيقة الحال وبكل أسف لم اتمكن من التعرّف عليه و مبادلته الشعور بالود الذي ينتظره مني، بل ارتبتُ في الأمر وانا انظر متفحصا بدقة وجهه وملامحه علني أعثر فيها على بقايا ملمح قديم منه، أو علامة تهديني الى هويته التي قد تكون غائبة عني الآن، وأنا أجهد ذاكرتي وأتساءلُ اين تراني التقيتُ به في السابق؟، لا جواب ولا شيء يسعفني في هذه البرهة الملحة الحرجة، وهو يواصل ترحابه بي في فرح متناه ويتزايد مع اللحظات التي تعبر ثقيلة عليّ، من شدة فرحه بلقياي وكأنه عثر على كنوز الدنيا مجتمعة الآن، ويكرر دون توقف سؤاله عن صحتي وبقية أحوالي بكل فصاحة واهتمام و يذكرني باسمي وكأنه يعرفني جيداً:

– استاذ عبدالله ما أسعدني في هذا اليوم بلقائك! وما أجمل هذه الفرصة السارة التي جمعتني بك بعد هذه القطيعة الطويلة التي فصلتنا عن بعض منذ افتراقنا! رغم ان طيفك يراودني من وقت لآخر.

مما ضاعف من حرجي معه وأنا استمع اليه وجعلني استخف بذاكرتي البليدة التي تخذلني الآن وانا أحوج ما أكون اليها، اذ رفضتْ بكل وهن الاعتراف بشخص يحتفي بملاقاتي صدفة ويمنحني من الإكبار و الاجلال اكثر مما اتوقع، ويرفع من شأني بدون تثبت!.

في البداية ظننتُ انه مخطئ ولم يحسن التعرف على صاحبه الذي يعتقد واهماً أنه أنا، وأنه عما قريب سوف ينتبه لتسرّعه وخطئه ويقدّم اعتذاره لي بكل وجل وينصرف لحال سبيله، وعندما واصل ترحابه وابتهاجه بي و بنفس قوة الحميمية واندفاع الدهشة التي بدأ بها، وذكر اسمي كاملاً هذه المرة ليؤكد لي ان اللوم على ذاكرتي أنا وليس عليه هو ازدادت حيرتي، ومع ذلك لازلت في شك من أمري، حتى أنني أسأتُ به الظن، لربما يكون نصّابا من اولئك الشباب الجدد الذين لفظتهم المدارس ولم يتحصلوا على نصيب من التعليم يجعل منهم اناساً أسوياء وعلى ثقة بالحياة، وأصبحوا بارعين في الخداع ويعتاشون منه و يملؤون شوارع المدينة، بحثا عن ضحايا يخادعونها او يبتزونها للحصول على بعض المال، يكون قد التقط اسمي صدفة واتخذ منه دريعة لاختراقي والوصول اليّ للنيل مني، وهو الآن يطبّق تمثيليته عليّ بحرفية متوخياً النجاح، وشئت ان اختبر صدقه معي وشفافية هذه المودة و الحرارة التي يبديها لي بلا حدود ويغمرني بها وكأنني وزيرٌ او محافظُ المدينة قاطبة.

وبينما هو لا يزال يسدي لي مديحه العالي بلا توقف كنتُ انا ازوغ بنظري لحظة هنا وأخرى هناك متهرباً مرتبكاً حائراً في أمري امام هذا الموقف الذي لا احسد عليه، حتى غيّرَ بنفسه مجرى حديثه عندما بادرني قائلاً:

– على ما يبدو انك لم تتعرف عليّ بعد يا استاذ عبدالله؟

وعندما لم اجبه بالسرعة المطلوبة تأكد من صحة شكوكه، و أيقن فعلاً أنني لم اتمكن من التعرّف عليه وهذا الشيء لم يعجبه بطبيعة الحال، أصابه الاحباط وتغير لون وجهه على الفور من أثر الخيبة وتدافعتْ الدماء اليه حتى اسوّد، وقال وهو غير راضٍ عما حدث أنا القيلوشي! أحد تلاميذك بمدرسة… في العام الدراسي… ما كنت اعتقد في يوم انك ستنساني بهذه السرعة، أو حتى تجد مشقة في التعرف عليّ الى هذا الحد، انت الذي كنت تحبنا حباً جماً يفوق الوصف أو هكذا نظن، وكنت ترعانا كأبنائك تماماً وتغمرنا بعطفك دون حدود، سواسية بلا فروق، وتبذل الجهد الكثير في سبيل تهذيبنا وتعليمنا، و لازلنا نعيش على نصائحك القيّمة وارشاداتك النبيلة التي تبديها على الدوام ولازالت لم تغادر أذهاننا و لا حتى آذاننا، ولا نتحصل عليها من احد سواك منذ تلك الأيام، وهي ذاتها التي اكتسبنا منها السداد والسؤدد و وهبتنا طمأنينة الأخذ وجرأة العطاء، وخلقتْ منا رجالاً فاعلين في مجتمعنا.

وبينما هو يسرد مآثري الجمة وأفعالي الحميدة بمبالغة ظننتُ معها أنه يتحدث عن انسان آخر وما كنتُ أعرف هذا عن نفسي، انصرفتُ محاولاً تذكّره وانا على يأسٍ من ذلك، لأن عدد التلاميذ الذين درستهم طيلة عملي بالتدريس قد بلغ الآلاف اليوم، وقد كبروا جميعاً وتغيرتْ ملامحهم وتبدلت سحناتهم، ولن اتمكن من استعادة وجوههم الفتية القديمة تلك -التي تراكمت- و لا اتذكر أي منهم الآن، وقد تكرر معي هذا الموقف المخجل في مرات عديدة سابقة، وكنت اوفق في اغلبها وأتمكن من معرفة تلميذي، و أجد انه من العسير عليّ تذكر وجه تلميذ واسمه معاً، فأحياناً نتعرف على الوجه فقط لكن اكون قد نسيت الاسم، و احياناً اخرى نتعرّف على الاسم والوجه معاً أو اتذكر الاسم وتغيب الملامح، ولكن في اغلب الأحيان التلميذ لا ينسى معلمه بينما المعلم قد ينسى تلميذه.

توجهت اليه بالكلام:

– طالما عددت مآثر المعلم أرى من واجبي ان اعرفك ما يلقاه مقابل ذلك من معاملة، حتى تكون على بينة منه، وها أنا أعيش بموازاة نفسي وقناعاتي، بعد ان أصبح الشعور الغالب عليّ فقدان الأمل في اصلاح ما تبقى، انا الآن قاربت نصف قرن من الزمان في مهنة التعليم، لكنني لم اجنِ شيئاً على الإطلاق حتى هذا اليوم سوى الخيبات، التي تراكمت بصورة مفزعة، لا شهادة تكريم ولا وسام استحقاق، وكل ما من شأنه ان يرفع من قدرنا ويشعرنا بقيمة وأهمية ما دفعناه من أعمارنا في سبيل هذه البلاد، لقد سبقنا التماسيح والدلافين وحتى ابناء آوى و نهبوا كل شيء، عزائي الوحيد يا بني انني اديت الأمانة بكل ما امتلكتُ من طاقة عطاء، ما كان مني ذلك قبل ان أعرف هذه الحقيقة المرة، و لو كنتُ عرفتها قبل ذلك لأصابني الخذلان والوهن والقنوط ، وما كنتُ قد اعطيتُكم شيئا مما كنت تقوله لي قبل قليل، نعم وهبنا جهودنا وعرقنا للأجيال التي نراها اليوم تزدهر و تبني دون منّة، وهنا (في صورة عابرة كالطيف تذكرتُ الدكتور (ضوء) تلميذي الذي اصبح معلمي ذات يوم عندما شئتُ اكمال دراستي العليا على كبر سني، وكيف ان الدنيا تدور في حلقة مفرغة كي تكرر نفسها، ونحن نتبادل عشوائياً فيها المراكز و الأدوار)، لكنما اعترافك هذا واعتراف الكثيرين امثالك وامتنانهم لما قدمته قد عوضني الكثير الكثير، هناك من أناس قد بذلوا ارواحهم في ساحات أخرى فداء لأوطانهم دفعة واحدة وانتهوا، لكنما نحن ندفعها بالتقسيط نفساً بعد نفسٍ ونذوب بالتدريج ، ولازلنا حتى هذه اللحظة من هذا الزمن الرتيب ندفع دون مِنّة و لا تقصير، يا بني الشعب اربعة مواطنين الأول يرى أنه وحده للوطن، والثاني يرى أن الوطن له وحده، والثالث يجمع بين الأول والثاني، والرابع هامشي ليس منهم جميعاً.

التعليم في بلادنا، يا بني قد تعمدوا تخريبه و افشاله على مدى عشرات الأعوام الماضية، باعتماد سياسات هدم خبيثة لتحقيق مآرب غامضة، فتمكنوا بسهولة ويسر من هدم الجاهز النامي و الآخذ في التطور على اساس استبداله بالأفضل، لكنهم لم يتمكنوا من اعادة البناء المنشودة.. وبقينا عاجزين نراوح في حالة الهدم دون ان نطول حتى بداية البناء، و تم ادخال و تمكين عناصر لا نهاية لها ولا تمت لمهنة التعليم بصلة ممن ليسوا أهل دراية و لا معرفة الى حقل التعليم لتسييره، فسَبَبَ هذا في تدنّي مستواه تدريجياً، وايقاف تناميه الصحيح لتشويهه مستقبلاً، الى ان بلغ الحضيض وهذا ما يكون عليه الآن تحديداً، ولكي ينهض من جديد يحتاج الى سنوات بناء تفوق في عددها سنوات الهدم بكثير، فالهدم يتم بسرعة لكنما البناء جد بطيء، وأعلم يا بني ان التعليم معلم فقط ، وما عداه مجرد مكملات و دعائم رافدة لا تبلغ في اهميتها درجة الضرورة، ولكن أين المعلم الذي نحتاج الآن؟

وعندما اكتشفَ انني استنفذتْ حيلي واستهلكتْ تماماً استاء لحالي وارتسمتْ على محياه علامات التذمر وأحسَ على ما يبدو بخيبة أمل كبيرة، ضاق بها صدره وعجز عن احتمالها، ارتعشتْ شفتاه و اهتز دقنه بعد ان احمر لونه، و تلألأتْ الدموع في عينيه طافرة غصباً عنه، وغص فمه بالكلمات والعبرات معاً.

أخذتُ اربتُ على كتفه واضمه الى صدري وأطيّبُ من خاطره، محاولاً دعمه نفسياً للتخفيف عنه و تهدئته، أجهش بالبكاء أكثر و خلّصَ نفسه من حضني يريد ان يخفي وجهه عني خجلاً من ما آلت اليه احوال المعلم، وكأنه بصمته وسكوته فيما مضى على الخطأ وهو يتفشى أمامنا جميعاً كان احد الأسباب في هذا البؤس الذي لاحظه عليّ، همستُ له بارتياح وانا على ثقة من نفسي:

– لا عليك يا بني (الشمعة لا تنحني.. وان انحنتْ انطفأتْ)

لم استطع انتزاع هذا القلب بما يخفق وأتخلص منه ! ومضي لحاله وهو ينظر اليّ عاجزا عن ايفائي ولو بالقليل من حقي، ولم يشح بوجهه عني، ويقول كلاماً كثيراً لم أستطع تبينه كاملاً لكن سمعتُه يكرر:

– الشمعة لا تنحني.. وان انحنت انطفأت.

واسترسل يكيل اللعنات بلا توقف على اولئك الذين بطولتهم في عب المال بعد ان اصبحتْ بهم ولديهم مهنة التعليم بضاعة للمتاجرة والسمسرة، وحتى عندما ابتعد عني استمر ينظر اليّ بحدة ويهدر غضباً بنفس السباب.

تلفتُ حولي باحثاً عن ملاذ يأويني وقد ثقل جسدي و عجزتُ عن الاستمرار في الوقوف، فالتجأت الى أقرب جدار وجلست تحته مستندا بظهري على قاعدته، وانا اتابع خطواته المعكوسة وهو يختفي عني رويداً رويداً.. ووجهه يتضح لي اكثر فأكثر كلما ابتعد..

مقالات ذات علاقة

محلل

إبراهيم حميدان

القضية رقم 1968

محمد ناجي

دقيقة واحدة

محمد ناجي

اترك تعليق